فصل: شهر القعدة سنة 1216:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.شهر القعدة سنة 1216:

استهل بيوم السبت فيه نهبت العربان قافلة التجار الواصلة من السويس.
وفي ثانيه، حضر السيد أحمد الزرو الخليلي التاجر بوكالة الصابون بديوان الباشا وتداعى على جماعة من التجار وثبت له عليهم عشرة آلاف ريال فأمر الباشا بسجنهم.
وفي رابعه يوم الثلاثاء، حضر السيد أحمد المذكور الى بيت الباشا فأمر بقتله فقبض عليه جماعة من العسكر وقطعوا رأسه عند المشنقة حيث قنطرة المغربي على قارعة الطريق وختموا على موجوده وأخذ الباشا ما ثبت له على المحبوسين والسبب في ذلك أوشى الى الباشا أنه كان يحب الفرنسيس ويميل إليهم ويسالمهم وعند خروجهم هرب الى الطور خوفاً من العثمانية، ثم حضر بأمان من الوزير.
وفي يوم الجمعة، حضر المشار إليه الى الجامع الأزهر بالموكب فصلى به الجمعة وخلع على الخطيب فروة سمور وفرق ونثر دراهم ودنانير على الناس في ذهابه وإيابه وتقيد قبي كتخداه وإسمعيل أفندي شقبون بتوزيع دراهم على الطلبة والمجاورين بالأروقة والعميان والفقراء ففرقوا فيهم نحو خمسة أكياس.
وفيه عمل الشيخ عبد الله الشرقاوي وليمة لزواج ابنه ودعا حضرة المشار إليه فحضر في يوم الأحد ثانيه، وحضر أيضاً شريف أفندي وعثمان كتخدا الدولة فتغدوا عنده وأنعم على ولد الشيخ بخمسة أكياس رومية وألبسه فروة سمور وفرق على الخدم والفراشين والقراء دنانير ودراهم بكثرة وكذلك دفع عثمان كتخدا وشريف أفندي كل واحد منهم كيساً وانصرفوا.
وفي يوم الأربعاء خامسه، حضر الباشا محمد أغات المعروف بالوسيع أغات المغاربة وأمر بقتله فقطعوا رأسه على الجسر ببركة الأزبكية قبالة بيت الباشا لأمور نقمها عليه وكتبت في ورقة وضعت عند رأسه.
وفي يوم الخميس سادسه، توفي قاسم بك أبو سيف على فراشه.
وفي منتصفه، وردت الأخبار من الجهة البحرية بضياع نحو الخمسين مركباً حلت مراسيها من ثغر إسكندرية مشحونة بمتاجر وبضائع، وكانت معوقة بكرنتينة الانكليز، فلما أذنوا لهم بالسراح، فما صدقوا بذلك فصادفتهم فرتونة خرجت عليهم فضاعوا بأجمعهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفيه طلب الباشا المشايخ وتكلم معهم في شأن الشيخ خليل البكري وعزله عن وظيفته وسأل رأيهم في ذلك فقالوا له الرأي لحضرتكم، فقال إن الشيخ خليلاً لا يصلح لسجادة الصديق وأريد عزله عنها من غير ضرر عليه بل أعطيه إقطاعاً لنفقته والقصد أن تروا رأيكم بعد اختلاف كبير على تقليد ذلك لمحمد سعد من أولاد جلال الدين، فلما حضروا في اليوم الثاني أخبروه بذلك، وأنه يستحقها إلا أنه فقير، فقال إن الفقر ليس بعيب فأحضروه وألبسه فروة سمور وأركبه فرساً بعباءة مزركشة، وأنعم عليه بثمانين ألف درهم وكان من الفقراء المحتاجين للدرهم الفرد، ولما ذهب للسلام على الشيخ السادات، خلع أيضاً فروة سمور عليه.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه، توفي الى رحمة الله الشيخ مصطفى الصاوي الشافعي، وكان عالماً نجيباً وشاعراً لبيباً وقد ناهز الستين.
وفيه جهزت عدة من العسكر الى قبلي.
وفيه نودي بأن خراج الفدان مائة وعشرون نصفاً، وكذلك نودي برفع عوائد القاضي والأفندي التي كانت تؤخذ على إثبات الجامكية والجراية والرفق بعوائد تقاسيط الالتزام والإقطاع. وكتبوا بذلك أوراقاً وألصقت بالأسواق، وفي آخرها لا ظلم اليوم أي مما تقرر قبل اليوم فإن الفدان بلغ في بعض القرى بمصاريفه ومغارمه أربعة آلاف نصف فضة وأما بدعة القاضي وعوائد التقاسيط فزادت عن أيام الوزير وزاد على ذلك إهمال الأوراق ببيت الباشا لأجل العلامة شهرين وأربعة حتى يسأم صاحبها وتحفى أقدامه من كثرة الذهاب والمجيء ومقاساة الذل من الخدل والأتباع ورفع التفتيش والرشوة على التعجيل أو يتركها وربما ضاعت بعد طول المدة فيحتاج الى استئناف العمل.

.شهر ذي الحجة الحرام سنة 1216:

استهل بيوم الأحد في رابعه، حضر خمسة أشخاص من الكشاف القبالي من أتباع ابراهيم بك الوالي الى مصر بأمان، فقابلوا حضرة والي مصر وأنعم عليهم وألبسهم خلعاً.
وفيه أنعم على خدامهم وفيه عمل الانكليز كرنتينة بالجيزة ومنعوا من يدخلها ومن يخرج منها وذلك لتوهم وقوع الطاعون وورود الأخبار بكثرته في جهة قبلي وبعض البلاد البحرية وأما المدينة ففيها بعض تنقير.
وفي يوم الإثنين تاسعه، كان يوم الوقوف بعرفة وعملوا في ذلك اليوم شنكاً ومدافع وحضرت أغنام وعجول كثيرة للأضحية حتى امتلأت منها الطرقات وازدحمت الناس وأفراد العسكر على الشراء وغيمت السماء في ذلك اليوم وأمطرت مطراً كثيراً حتى توحلت الأزقة ونودي بفتح الحوانيت والقهاوي والمزينين ليلاً وإظهار الفرح ولاسرور وإظهار بهجة العيد واستمر ضرب المدافع في الأوقات الخمسة، ونودي أيضاً بالمواظبة على الاجتماع للصلوات في المساجد وحضور الجمعة من قبل الصلاة بنصف ساعة وأن يسقوا العطاش من الأسبلة ولا يبيعون ماءها وأشيع سفر الانكليز وسفر عثمان كتخدا الدولة وتشهيل الخزينة.
وفي خامس عشره، حضر قاصد من الديار الرومية بمكاتبات وتقرير نقابة الأشراف للسيد عمر وعزل يوسف أفندي، فلما كان في صبحها يوم الأحد ركب السيد عمر المذكور وتوجه الى عند الباشا فألبسه خلعة سمور، ثم حضر الى عند الدفتردار كذلك، وكانت مدة ولاية يوسف أفندي المعزول شهرين ونصفاً.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره، خرج أحمد آغا خورشيد أمير الإسكندرية الى بولاق قاصداً السفر الى منصبه وركب الباشا لوداعه في عصريته وضربوا عدة مدافع من بولاق وبر انبابة ونودي في ذلك اليوم بأن لا أحد يواري أحداً من الانكليز أو يخبيه وكل من فعل ذلك عوقب.
وفي خامس عشرينه، قبضوا على امرأة سرقت أمتعة من حمام وشنقوها عند باب زويلة وانقضت هذه السنة وما تجدد بها من الحوادث التي جملتها أن شريف أفندي الدفتردار أحدث على الرزق الأحباسية المرصدة على الخيرات والمساجد وغيرها مال حماية على كل فدان عشرة أنصاف فضة وأقل وأكثر في جميع الأراضي المصرية القبلية والبحرية وحرروا بذلك دفاتر فكل من كان تحت يده شيء من ذلك قل أو كثر يكتب له عرضحال ويذهب به الى ديوان الدفتردار، فيعلم عليه علامته وهي قوله قيد بمعنى أنه يطلب قيوده من محله التي تثبت دعواه، ثم يذهب بذلك العرضحال الى كاتب الرزق فيكشف عليها في الدفاتر المختصة بالإقليم الذي فيه الارصاد بموجب الإذن بتلك العلامة فيكتب له ذلك تحتها بعد أن يأخذ منه دراهم ويطيب خاطره بحسب كثرة الطين وقلته وحال الطالب ويكتب تحته علامته، فيرجع به الى الدفتردار فيكتب تحته علامة غير الأولى فيذهب به الى كاتب الميري فيطالبه حينئذ بسنداته وحجج تصرفه ومن أين وصل إليه ذلك، فإن سهلت عليه الدنيا ودفع له ما أرضاه كتب له تحت ذلك عبارة بالتركيب لثبوت ذلك وإلا نعنت على الطالب بضروب من العلل وكلفه بثبوت كل دقيقة يراها في سنداته وعطل شغله فما يسع ذلك الشخص إلا بذل همته في تتميم غرضه بأي وجه كان، إما أن يستدين أو يبيع ثيابه ويدفع ما لزمه، فإن ترك ذلك وأهمله بعد اطلاعهم عليه حلوه عنه ورفعوه وكتبوه لمن يدفع حلوانه ثلاث سنوات أو أكثر وكتبوا له سنداً جديداً يكون هو المعول عليه بعد ويقيد بالدفاتر ويبطل اسم الأول وما بيده من الوقفيات والحجج والإفراجات القديمة ولو كانت عن أسلافه، ثم يرجع كذلك الى الدفتردار فيكتب له علامة لكتابة الاعلام فيذهب به الى الإعلامجي فيكتب له عبارة أيضاً في معنى ما تقدم ويختم تحتها بختم كبير فيه اسم الدفتردار ويأخذ على ذلك دراهم أيضاً، وبعد ذلك يرجع الى الدفتردار فيقرر ما يقرره عليها من المال يقال له مال الحماية، ثم يذهب بها الى بيت الباشا ليصحح عليها بعلامته ويطول عند ذلك انتظاره لذلك، ويتفق إهمالها الشهرين والثلاثة عند الفرمانجي. وصاحبها يغدو ويروح في كل يوم حتى تحفى قدماه ولا يسهل به تركها بعدما قاساه من التعب وصرفه من الدراهم، فإذا تمت علامتها دفع أيضاً المعتاد الذي على ذلك ورجع بها الى بيت الدفتردار، فعند ذلك يطلبون منه ما تقرر عليها فيدفعه عن تلك السنة، ثم يكتبون له سنداً جديداً ويطالب بمصروفه أيضاً وهو شيء له صورة أيضاً فلا يجد بداً من دفعه ولايزال كذلك يغدو ويروح مدة أيام حتى يتم له المراد.
ومنها المعروف بالجامكية ومرتبات الغلال بالأنبار، وذلك أن من جملة الأسباب في رواج حال أهل مصر المتوسطين وغناهم ومدار حال معاشهم وإيرادهم في السابق هذان الشيئان وهما الجامكية والغلال التي يقال لها الجرايات التي رتبها الملوك السالفة من الأموال الميرية للعساكر المنتسبة للوجاقات والمرابطين بالقلاع الكائنة حوالي الإقليم، ومنها ماهو للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ونحوهم وكانت من أرواج الإيراد لأهل مصر وخصوصاً أهل الطبقة الذين ليس لهم إقطاع ولا زراعات ولا تجارات كأهل العلم ومساتير أولاد البلد والأرامل ونحوهم، وثبت وتقرر إيرادها وصرفها في كل ثلاثة أشهر من أول القرن العاشر الى أواخر الثاني عشر، بحيث تقرر في الأذهان عدم اختلالها أصلاً، ولما صارت بهذه المثابة تناقلوها بالبيع والشراء والفراغ وتغالوا في أثمانها ورغبوا فيها وخصوصاً لسلامتها من عوارض الهدم والبناء، كما في العقار وأوقفوها وأرصدوها ورتبوها على جهات الخيرات والصهاريج والمكاتب ومصالح المساجد ونفقات أهل الحرمين وبيت أهل المقدس، وأفتى العلماء بصحة وقفها لعلة عدم تطرق الخلل، فلما اختلت الأحوال وحدثت الفتن وطمع الحكام والولاة في الأموال الميرية ضعف شأنها ورخص سعرها وانحط قدرها وافتقر أربابها، ولم تزل في الانحطاط والتسفل، حتى بيع الأصل والإيراد بالغين الفاحش جداً وتعطل بسبب ذلك متعلقاتها. ولم يزل حالها في اضطراب الى أن وصل هؤلاء القادمون وجلس شريف أفندي الدفتردار المذكور ورأى الناس فيه مخايل الخير لما شاهدوه فيه من البشاشة وإظهار الرفق والمكارم غرض الناس عليه شأن العلوفة المذكورة والغلال فلم يمانع في ذلك وكتب الإذن على الأوراق كعادته وذهب بها أربابها الى ديوان الكتبة وكبيرهم يسمى حسن أفندي باش محاسب، وهو من العثمانيين، عارض في حسابها وقال: إن العثماني اسم لواحد الأقجة وصرفه عندنا بالروم كل ثلاث أقجات بنصف فضة، وما في دفاتركم يزيد في الحساب الثلث، فعورض وقيل له إن الأقجة المصري كل اثنين بنصف بخلاف اصطلاح الروم وهذا أمر تداولنا عليه من قديم الزمان، ولم يزل حتى فقد ذلك المشروع ومشوا على فقد الثلاث، ورضي الناس بذلك لظنهم رواج الباقي، وعند استقرار الأمر بذلك أخذوا يتعنتون على الناس في الثبوت وقد كان الناس اصطلحوا في أكثرها عند فراغها على عدم تغيير الأسماء التي رقمت بها وخصوصاً بعد ضعفها فيبيعها البائع ويأخذها المشتري بتمسك البيع فقط ويترك سند الأصل بما فيه من الاسم القديم عنده أو تكون باسم الشخص ويموت، وتبقى عند أولاده، فجعلوا معظمها بهذه الصورة وأخذوه لأنفسهم وأعطوا منه لأغراضهم بعد رفع الثلث الأصل وثلث الإيراد وضاعت على أربابها مع كونهم فقراء، وكذلك فعلوا في أوراق الغلال وجعلوها بدارهم عن كل أردب خمسون نصفاً غلا أو رخص، وزاد في القيود التي تكتب على العرضحالات المصطلحين عليها بأن يكتب عليها أيضاً قاضي العسكر بعد حسابهم مقدار العلوفة والغلال ويأخذ على كل عثماني نصفين أو أقل أو أكثر وعلى كل أردب قرشاً رومياً، وكل ذلك حيلة على أخذ المال بطريق شيطاني، وحرروا ما حرروه ودفعوا للناس ما دفعوه مقسطاً على الجمع والشهور. رضوا بذلك وفرحوا به لظنهم دوامه، واستعوضوا الله فيما ذهب لهم وختموا الدفتر على مقدار ما عرض عليهم، وما ظهر بعد ذلك لا يعمل به ويذهب في المحلول، ولما انقضت هذه السنة الأخرى وافتتح الناس الطلب قيل لهم إن الذي أخذتموه هو عن السنة القابلة وقد قبضتموها معجلة وعزل شريف أفندي الدفتردار في إثرها ووصف خليل أفندي الرجائي واضطربت الأحوال ولم ينفع القيل والقال كما يأتي.

.من مات في هذه السنة من الأعيان:

مات الشيخ العمدة الإمام خاتمة العلماء والأعلام ومسك ختام الجهابذة ذوي الإفهام ومن افتخر به عصره على الأعصار وصاح بلبل فصاحته في الأمصار، يتيمة الدهر وشامة وجه أهل العصر، العالم المحقق والنحرير المدقق، بديع الزمان والتاج المرصع على رؤوس الأقران الناظم الناثر الفصيح الباهر الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي والده كان من أعيان التجار بمصر وأصل مرباهم بالسويس بساحل القلزم وصاوي نسبة الى بلدة بشرقية بلبيس تسمى الصوة وهي على غير القياس، وهي بلدة والده، ثم انتقل منها الى السويس وكان يبيع بها الماء وولد له بها المترجم، فارتحل به الى مصر وسكن بحارة الحسينية مدة وأتى بولده المترجم الى الجامع الأزهر واشتغل بالقراءة فحفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم وحضر دروس الأشياخ ولازم الشيخ عيسى البراوي وتخرج به ومهر وأنجر وأقرأ الدروس، وختم الختوم وشهد له الفضاء، وكان لطيف الذات مليح الصفات رقيق حواشي الطبع مشاراً إليه في الإفراد والجمع مهذب الأخلاق جميل الأعراق، وحاله وفضله كثير، ولم يزل يقرر ويفيد ويملي ويعيد حتى قطفت يد الأجل نواره وأطفأت رياح المنية أنواره.
ومات الأمير عثمان بك الأشقر الإبراهيمي وهو من مماليك ابراهيم بك الكبير الموجود الآن اشتراه ورباه وأعتقده وجعله خازنداره مدة، ثم قلده الإمارة والصنجقية في سنة 1129 وعرف بالأشقر لشقرته، ولما انتقل أستاذه الى بيت سيده محمد بك بعطفة قوصون سكن مكانه بدرب الجماميز وصار له مماليك وأتباع، وانتظم في عداد الأمراء وخرج مع سيده في الحوادث، وتغرب معه في البلاد القبلية، وطلع أميراً بالحج في سنة 1210 وعاد في أمن وأمان، ولما حصلت حادثة الفرنسيس كان هو مع من كان بالبر الغربي وذهب الى الصعيد، ثم مر من خلف الجبل ولحق بأستاذه ببر الشام، ولم يزل حتى رجع مع أستاذه والأمراء بصحبة عرضي الوزير في المرة الثانية، ثم سافر مع حسين باشا القبودان فقتل مع من قتل بأبي قير ودفن بالإسكندرية وكان ذا حشمة وسكون وحسن عشرة مع ما فيه من الشح.
ومات الأمير عثمان بك الجوخدار المعروف بالطنبرجي المرادي وهو من مماليك مراد بك. اشتراه ورباه ورقاه وقلده الإمارة والصنجقية في سنة 1197، ولما وصل حسن باشا الجزايرلي الى مصر وخرج مع سيده وباقي الأمراء من مصر على الصورة المتقدمة، ووقع بينهم ما وقع من الحروب والمهادنة حضر هو وحسين بك المعروف بشفت وعبد الرحمن بك الابراهيمي الى مصر رهائن، ولما سافر حسن باشا الى الروم أخذهم صحبته بإغراء إسمعيل بك، فأقاموا هناك، ثم نفوهم الى ليميا فاستمروا بها ومات بها حسين بك خشداشه المذكور، ثم رجع المترجم وعبد الرحمن بك بعد وقوع الطاعون وموت إسمعيل بك وأتباعهما الى مصر. فلم يزالوا حتى حصل ما حصل من ورود الفرنسيس وموت مراد بك في أخريات أيامهم. فوقع اختيار المرادية على تأميره عوضاً عن سيده بإشارة خشداشه محمد بك الألفي وانتقل بعشيرته الى الجهة البحرية وانضموا الى عرضي الوزير، ووصلوا الى مصر فكان هو وابراهيم بك الألفي ثاني اثنين يركبان معاً وينزلان معاً، ولم يزل حتى سافر القبودان بعدما مكر مكره مع الوزير سراً على خيانة المصريين فأرسل يستدعيه هو وعثمان بك البرديسي فسافراً امتثالاً للأمر فأوقع بهما ما تقدم وقتل المترجم ونجا البرديسي، ودفن بالإسكندرية. وكان أميراً لا بأس به وجيه الشكل عظيم اللحية ساكن الجأش فيه تؤدة وعقل، وسبب تلقبه بالطنبرجي أنه كان في عنفوان أمره مولعاً بسماع الآلات وضرب الطنبور.
ومات الأمير مراد بك المعروف بالصغير وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب وانتمى الى سليمان بك الآغا واستمر ملازماً له ومنسوباً إليه مدة أعوام وكان يعرف بمراد كاشف وله إيراد واسع ومماليك ثم تقلد الإمارة والصنجقية في 1206 فزادت وجاهته، ولم يزل كذلك حتى سافر مع عثمان بك الأشقر وأحمد بك الحسني مع القبودان وقتل كذلك بأبي قير ودفن بالإسكندرية.
ومات الأمير قاسم بك أبو سيف وهو مملوك عثمان بك أبي سيف الذي سافر بالخزينة، ومات بالروم، وذلك سنة 1180 وهي آخر خزينة رأيناها سافرت الى اسلامبول على الوضع القديم وعثمان بك هذا مملوك عثمان بك أبي سيف الذي كان من جملة القاتلين لعلي بك الدمياطي وخليل بك قطامش ومحمد بك قطامش في ولاية راغب باشا كما تقدم، وخدم المترجم مراد بك وكان يعرف بقاسم كاشف أبي سيف وكان له إقطاع والتزام وإيراد، واشتهر ذكره في أيام مراد بك وبنى داره التي بالناصرية وأنفق عليها أموالا جمة وكان له ملكة وفكرة في هندسة البناء واستأجر قطعة عظيمة من أراضي البركة الناصرية اتجاه داره من وقف المولوية وسورها بالبناء، وبنى في داخلها قصراً مزخرفاً برحبة متسعة، وقسم تلك الأرض بتقاسيم للمزارع وحولها طرق ممهدة مستطيلة ومجار للمياه التي تصل إليها أيام النيل ومجار أخرى عالية مبنية بالمؤن والخافقي من داخلها تجري فيها المياه من السواقي ويحيط بذلك جميعه أشجار الصفصاف المتدانية القطاف، وبداخل تلك البركة المنقسمة النخيل والأشجار ومرارع المقاثئ والبرسيم والغلة وغيرها يسرح فيها النظر من سائر جهاتها وتنشرح النفوس في أرجائها ومساحاتها، وجعل السواقي في ناحية تجتمع مياهها في حوض وبأسفله أنابيب تتدفق منها المياه الى حوض أسفل منه وعنده مجلس ومساطب للجلوس، وتجري منه المياه الى المجاري المخففة المرتفعة، ومنها تنصب من مصبات من حجر الى أحواض أسفل منها صغار وتجري الى مساقي المزارع وعند كل مصب منها محل للجلوس وعليه أشجار تظله وبوسطه أيضاً ساقية بفوهتين تجري منها المياه أيضاً والقصر يشرف على ذلك كله وحول رحبة القصر وطرق الممشاة كروم العنف والتكاعيب وأباح للناس الدخول إليها والتنزه في رياضها والتفسح في غياضها والسروح في خلالها والتفيؤ في ظلالها، وسماها حديقة الصفصاف والآس لمن يريد لحظو والائتناس، ونقش ذلك في لوح من الرخام وسمره في أصل شجرة يقرؤها الداخلون إليها فأقبل الناس على الذهاب إليها للنزاهة ووردوا عليها من كل جهة وعملوا فيها قهاوي ومساقي ومفارش واتخاخاً يفرشها القهوجية للعامة، وقللاً وأباريق واجتمع بها الخاص والعام وصار بها مغان وآلات وغواني ومطربات، والكل يرى بعضهم بعضاً وجعل بها كراسي للجلوس وكنيفات لقضاء الحاجة، وجعل للقصر فرشاً ومساند ولوازم ومخادع لنفسه ولمن يأتي إليه بقصد النزاهة من أعيان الأمراء والأكابر، فيبيتون به الليالي ولا يحتاجون لسوى الطعام فيأتي إليهم من دورهم، وزاد بها الحال حتى امتنع من الدخول إليها أهل الحياء والحشمة، وأنشأ تجاهها أيضاً على يسار السالك الى طريق الخلاء بستاناً آخر على خلاف وضعها وأخبرني المترجم أيضاً من لفظه أنه أنشأ بستاناً بناحية قبلي أعجب وأغرب من ذلك ولما حضر حسن باشا الجزايرلي الى مصر وخرج منها أمراؤها تخلف المترجم عن مخدومه واستقر بمصر فقلدوه الإمارة والصنجقية في سنة 1201 فعظمت أمرته وزادت شهرته وتقلد إمارة الحج مرتين ولما أوقع العثمانية بالأمراء المصرلية ما أوقعوه وانفصلوا من حبس الوزير وانضموا الى الانكليز بالجيزة ثم انتقلوا الى جزيرة الذهب وارتحلوا منها الى قبلي تخلف عنهم المترجم لمرض اعتراه وحضر الى مصر ولازم الفراش ولم يزل حتى مات في يوم الخميس سادس القعدة من السنة وكان يخضب لحيته بالسواد مدة سنين رحمه الله.
ومات ابراهيم كتخدا السناري الأسود وأصله من برابرة نقلة وكان بواباً في مدينة المنصور وفيه نباهة فتداخل في الغز القاطنين هناك مثل الشابوري وغيره بكتابة الرقى وضرب الرمل ونحو ذلك، ولبس ثياباً بيضاء ثم تعاشر مع بعضهم وركب فرساً وانتقل الى الصعيد مع من اختلط بهم، وتداخل في أتباع مصطفى بك الكبير ولم يزل حتى اعتشر بالأمير المذكور وتعلم اللغة التركية فاستعمله في مراسلاته وقضاياه، فنقل فتنة ونميمة بين الأمراء فأراد مراد بك قتله، فالتجأ الى حسين بك وخدمه مدة ثم تحيل والتجأ الى مراد بك وعاشره وألبه ولازمه في الغربة والأسفار، واشتهر ذكره وكثر ماله وصار له التزام وإيراد، وبنى داره التي بالناصرية وصرف عليها أموالاً واشترى المماليك الحسان والسراري البيض وتداخل في القضايا والمهمات العظيمة والأمور الجسيمة وصار من أعظم الأعيان المشار إليهم بمصر، ونمى ذكره وعظم شأنه وباشر بنفسه الأمور من غير مشورة الأمراء فكان يحل ما يعقده الأمراء الكبار ولما تحجب مخدومه بقصر الجيزة كان المترجم لسان حاله في الأمر والنهي وبيده مقاليد الأشياء الكلية والجزئية ولا يحجب عن ملاقاة مخدومه في أي وقت شاء، فينهي إليه ما يريد تنفيذه بحسب غرضه واتخذ له أتباعاً وخدماً يقضون القضايا ويسعون في المهمات ويتوسطون لأرباب الحاجات ويصانعهم الناس حتى الأكابر ويسعون الى دورهم، وصاروا من أرباب الوجاهات والثروات ولم يزل ظاهر الأمر نامي الذكر حتى وقعت الحوادث وسافر الفرنساوية ودخل العثمانية ورجع قبودان باشا الى أبي قير فأرسل يطلبه في جملة من استدعاهم إليه وقتل مع من قتل ودفن بالإسكندرية.